فصل: تفسير الآية رقم (89):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (89):

{وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)}
{وياقوم لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} أي لا يكسبنكم {شِقَاقِى} أي معاداتي، وأصلها أن أحد المتعادين يكون في عدوة وشق. والآخر في آخر، وروي هذا عن السدي، وعن الحسن ضراري، وعن بعض فراقي، والكل متقارب، وهو فاعل يجرمنكم والكاف مفعوله الأول، وقوله سبحانه: {أَن يُصِيبَكُمُ} مفعوله الثاني، وقد جاء تعدى جرم إلى مفعولين كما جاء تعديها لواحد وهي مثل كسب في ذلك، ومن الأول قوله:
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة ** جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا

وإضافة شقاق إلى ياء المتكلم من إضافة المصدر إلى مفعوله أي لا يكسبنكم شقاقكم إياي أن يصيبكم {مّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ} من الغرق {أَوْ قَوْمَ هُودٍ} من الريح {أَوْ قَوْمَ صالح} من الرجفة والصيحة، ونهى الشقاق مجاز أو كناية عن نهيهم وهو أبلغ من توجيه النهي إليهم لأنه إذا نهى وهو لا يعقل علم نهي المشاقين بالطريق الأولى، وقرأ ابن وثاب. والأعمش {يَجْرِمَنَّكُمْ} بضم الياء، وحكى أيضًا عن ابن كثير وهو حينئذٍ من أجرمته ذنبًا إذا جعلته جارمًا له أي كاسبًا، والهمزة للنقل من جرم المتعدي إلى مفعول واحد، ونظيره في النقل كذلك كسب المال فإنه قال فيه أكسبه المال والقراءتان سواء في المعنى إلا أن المشهور جارية على ما هو الأكثر استعمالًا في كلام الفصحاء من العرب الموثوق بعربيتهم، وقرأ مجاهد والجحدري. وابن أبي إسحاق {مَثَلُ} بالفتح، وروي ذلك عن نافع، وخرجه جمع على أن {مَثَلُ} فاعل أيضًا إلا أنه بني على الفتح لإضافته إلى غير متمكن، وقد جوز فيه. وكذا في غير مع ما. وأن المخففة. والمشددة ذلك كالظروف المضافة للمبنى، وعلى هذا جاء قوله:
لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت ** حمامة في غصون ذات أو قال

وبعض على أنه نعت لمصدر محذوف والفتحة إعراب أي إصابة مثل إصابة قوم نوح، وفاعل {يُصِيبَكُمُ} ضمير مستتر يعود على العذاب المفهوم من السياق وفيه تكلف {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مّنكُم بِبَعِيدٍ} زمانًا كما روي عن قتادة. أو مكانًا كما روي عن غيره ومراده عليه السلام أنكم إن لم تعتبروا بمن قبل لقدم عهد أو بعد مكان فاعتبروا بهؤلاء فإنهم رأى ومسمع منكم وكأنه إنما غير أسلوب التحذير بهم واكتفى بذكر قربهم إيذانًا بأن ذلك مغن عن ذكر ما أصابهم لشهرة كونه منظومًا في سمط ما ذكر من دواهي الأمم المرقومة، وجوز أن يراد بالبعد البعد المعنوي أي ليسوا ببعيد منكم في الكفر والمساوي، فاحذروا أن يحل بكم ما حل بهم من العذاب، وقد أخذ هذا المعنى بعض المتأخرين فقال:
فإن لم تكونوا قوم لوط بعينهم ** فما قوم لوط منكم ببعيد

وإفراد {بَعِيدٍ} وتذكيره مع كون المخبر عنه وهو قوم اسم جمع، ومؤنثًا لفظًا على ما نص عليه الزمخشري، واستدل له بتصغيره على قويمة وذلك يقتضي أن يقال: ببعيدة موافقة للفظ وببعداء موافقة للمعنى لأن المراد، وما إهلاكهم أو وما هم بشيء بعيد، أو وما هم في زمان بعيد أو مكان بعيد، وجوز أن يكون ذلك لأنه يستوي في بعيد المذكر والمؤنث لكونه على زنة المصادر كالنهيق. والصهيل.
وفي الكشف عن الجوهري أن القوم يذكر ويؤنث لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها إذا كانت للآدميين تذكر وتؤنث مثل رهط. ونفر. وقوم وإذا صغرت لم تدخل فيه الهاء، وقلت: قويم. ورهيط ونفير، ودخل الهاء فيما يكون لغير الآدميين مثل الإبل. والغنم لأن التأنيث لازم وبينه وبين ما نقل عن الزمخشري بون بعيد، وعليه فلا حاجة إلى التأويل، هذا ثم إنه عليه السلام لما أنذرهم سوء عاقبة صنيعهم عقبة طمعًا في اروعائهم عما هم فيه من الضلال بالحمل على الاستغفار والتوبة فقال:

.تفسير الآية رقم (90):

{وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)}
{واستغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} مر تفسير مثله {إِنَّ رَبّى رَحِيمٌ} عظيم الرحمة فيرحم من يطلب منه المغفرة {وَدُودٌ} أي كثير الود والمحبة فيحب من يتوب ويرجع إليه، والمشهور جعل الودود مجازًا باعتبار الغاية أي مبالغ في فعل ما يفعل البليغ المودة بمن يوده من اللطف والإحسان.
وجوز أن يكون كناية عند من لم يشترط إمكان المعنى الأصلي، والداعي لارتكاب المجاز أو الكناية على ما قيل: إن المودة عنى الميل القلب وهو ممالا يصح وصفه تعالى به، والسلفي يقول: المودة فينا الميل المذكور، وفيه سبحانه وراء ذلك مما يليق بجلال ذاته جل جلاله، وقيل: معنى {وَدُودٌ} متحبب إلى عباده بالإحسان إليهم، وقل: محبوب المؤمنين، وتفسيره هنا بما تقدم أولى، والجملة في موضع التعليل للأمر السابق ولم يعتبر الأكثر ما أشرنا إليه من نحو التوزيع، فقال: عظيم الرحمة للتائبين مبالغ في اللطف والإحسان بهم، وهو مما لا بأس به.

.تفسير الآية رقم (91):

{قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)}
{قَالُواْ ياشعيب مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مّمَّا تَقُولُ} أي ما نفهم ذلك كأنهم جعلوا كلامه المشتمل على فنون الحكم والمواعظ وأنواع العلوم والمعارف إذ ضاقت عليهم الحيل وعيت بهم العلل ولم يجدوا إلى محاورته عليه السلام سبيلًا من قبيل التخليط والهذيان الذي لا يفهم معناه ولا يدرك فحواه، وقيل: قالوا ذلك استهانة به عليه السلام كما يقول الرجل لمن لا يعبأ به: لا أدري ما تقول، وليس فيه كثير مغايرة للأول، ويحتمل أن يكون ذلك لعدم توجههم إلى سماع كلامه عليه السلام لمزيد نفرتهم عنه أو لغباوتهم وقصور عقولهم، قيل: وقولهم {كَثِيرًا} للفرار عن المكابرة ولا يصح أن راد به الكل وإن ورد في اللغة لأن مما تقول يأبى ذلك كما أن {كَثِيرًا} نفسه يأبى حمل كلامهم هذا على أنه كناية عن عدم القبول، وزعم بعضهم أنهم إنما لم يفقهوا كثيرًا مما يقول لأنه عليه السلام كان ألثغ، وأظن أنه لم يفصح بذلك خبر صحيح على أن ظاهر ما جاء من وصفه عليه السلام بأنه خطيب الأنبياء يأبى ذلك. ولعل صيغة المضارع للإيذان بالاستمرار {وَأَنَا لِنُرِيَكَ فِينَا} أي فيما بيننا {ضَعِيفًا} لا قوة لك ولا قدرة على شيء من الضر والنفع والإيقاع والدفع.
وروي عن ابن عباس. وابن جبير. وسفيان الثوري. وأبي صالح تفسير الضعيف بالأعمى وهي لغة أهل اليمن، وذلك كما يطلقون عليه ضريرًا وهو من باب الكناية على ما نص عليه البعض، وإطلاق البصير عليه كما هو شائع من باب الاستعارة تمليحًا، وضعف هذا التفسير بأن التقييد بقولهم: فينا بصر لغوًا لأن من كان أعمى يكون أعمى فيهم وفي غيرهم وإرادة لازمة وهي الضعف بين من ينصره ويعاديه لا يخفى تكلفه، ومن هنا قال الإمام: جوز بعض أصحابنا العمى على الأنبياء عليهم السلام لكن لا يحسن الحمل عليه هنا، وأنت تعلم أن المصحح عند أهل السنة أن الأنبياء عليهم السلام ليس فيهم أعمى، وما حكاه الله تعالى عن يعقوب عليه السلام كان أمرًا عارضًا وذهب.
والأخبار المروية عمن ذكرنا في شعيب عليه السلام لم نقف على تصحيح لها سوى ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فإن الحاكم صحح بعض طرقه لكن تصحيح الحاكم كتضعيف ابن الجوزي غير معول عليه، ورا يقال فيه نحو ما قيل في يعقوب عليه السلام، فقد أخرج الواحدي. وابن عساكر عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بكى شعيب عليه السلام من حب الله تعالى حتى عمي فرد الله تعالى عليه بصره وأوحى إليه يا شعيب ما هذا البكاء أشوقًا إلى الجنة أم خوفًا من النار، فقال: لا ولكن اعتقدت حبك بقلبي فإذا نظرت إليك فلا أبالي ما الذي تصنع بي، فأوحى الله تعالى إليه يا شعيب إن يكن ذلك حقًا فهنيئًا لك لقائي يا شعيب لذلك أخدمتك موسى بن عمران كليمي».
، وذهب بعض المعتزلة إلى أنه لا يجوز استنباء الأعمى لكونه صفة منفرة لعدم الاحتراز معه عن النجاسات ولأنه يخل بالقضاء والشهادة فإخلاله قام النبوة أولى، وأجيب بأنا لا نسلم عدم الاحتراز معه عن النجاسات فإن كثيرًا ممن نشاهده من العميان أكثر احترازًا عنها من غيره، وبأن القاضي، والشاهد يحتاجان إلى التمييز بين المدعي والمدعى عليه، والنبي لا يحتاج لتمييز من يدعوه مع أنه معصوم فلا يخطئ كغيره كذا قيل، فلينظر {وَلَوْلاَ رَهْطُكَ} أي جماعتك قال الراغب: هم ما دون العشرة.
وقال الزمخشري: من الثلاثة إلى العشرة، وقيل: إلى السبعة، وقيل: بل يقال: إلى الأربعين، ولا يقع فيما قل كالعصبة. والنفر إلا على الرجال، ومثله الراهط. وجمعه أرهط. وجمع الجمع أراهط، وأصله على ما نقل عن الرماني الشد، ومنه الرهيط لشدة الأكل، والراهطاء لحجر اليربوع لأنه يتوثق به ويخبأ فيه ولده، والظاهر أن مرادهم لولا مراعاة جانب رهطك {لرجمناك} أي لقتلناك برمي الأحجار، وهو المروى عن ابن زيد، وقيل: ذلك كناية عن نكاية القتل كأنهم قالوا: لقتلناك بأصعب وجه؛ وقال الطبري: أرادوا لسببناك كما في قوله تعالى: {لارْجُمَنَّكَ واهجرنى مَلِيًّا} [مريم: 46]، وقيل: لأبعدناك وأخرجناك من أرضنا، ولم يجوزوا أن يكون المراد لولا ممانعة رهطك ومدافعتهم لأن ممانعة الرهط وهم عدد نزر لألوف مؤلفة مما لا يكاد يتوهم؛ ومعنى {وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} ما أنت كرم محترم حتى نمتنع من رجمك وإنما نكف عنك للمحافظة على حرمة رهطك الذين ثبتوا على ديننا ولم يختاروك علينا، والجار الأول متعلق {بِعَزِيزٍ} وجاز لكون المعمول ظرفًا والباء مزيدة، ولك أن تجعله متعلقًا حذوف يفسره الظاهر وهو خبر أنت، وقد صرح السكاكي في المفتاح أنه قصد بتقدم هذا الضمر الذي هو فاعل معنوي وإن لم يكن الخبر فعلًا بل صفة مشبهة وإيلائه النفي الحصر والاختصاص أي اختصاص النفي عنى أن عدم العزة مقصور عليك لا يتجاوزك إلى رهطك لا عنى نفي الاختصاص عنى لست منفردًا بالعزة وهو ظاهر، قاله العلامة الثاني، وقال السيد السند: إنه قصد فيه نفي العزة عن شعيب عليه السلام وإثباتها لرهطه فيكون تخصيصًا للعزة بهم ويلزمه تخصيص عدمها به إلا أن المتبادر كما يشهد به الذوق السليم هو القصد إلى الأول، واستدل السكاكي على كون ذلك للاختصاص بقوله عليه السلام في جواب هذا الكلام ما حكى بقوله عز شأنه:

.تفسير الآية رقم (92):

{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92)}
{قَالَ ياقوم أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم مّنَ الله} أي من نبي الله على ما قال عليه الرحمة، ووجه الاستدلال كما قال العلامة. وغيره: إنه لو لم يكن قصدهم اختصاصه بنفي العزة بل مجرد الإخبار بعدم عزته عليهم لم يستقم هذا الجواب ولم يكن مطابقًا لمقالهم إذ لا دلالة لنفي العزة عنه على ثبوتها للغير، وإنما يدل على ذلك اختصاصه بنفي العزة.
واعترض صاحب الإيضاح بأن هذا من باب أنا عارف وهو لا يفيد الاختصاص وفاقًا وإنما يفيده التقديم على الفعل مثل أنا عرفت، وكون المشتقات قريبة من الأفعال في التقوى لا يقتضي كونها كالأفعال في الاختصاص والتمسك بالجواب ضعيف لجواز أن يكون جوابًا لقولهم: {لَوْلاَ رَهْطُكَ لرجمناك} [هود: 91] فإنه يدل على أن رهطه هم الأعزة حيث كان الامتناع عن رجمه بسببهم لا بسببه ومعلوم بحسب الحال والمقام أن ذلك لعزتهم لا لخوفهم، وتعقبه السيد السند بأن صاحب الكشاف صرح بالتخصيص في قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون: 100] فكيف يقال: باب أنا عارف لا يفيد الاختصاص اتفاقًا وإن جعله جوابًا لما {أَنتَ عَلَيْهِمْ بِعَزِيزٍ} هو الظاهر بأن يجعل التنوين للتعظيم فيدل على ثبوت أصل العزة له عليه السلام ولا دلالة لقولهم: {وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لرجمناك} [هود: 91] على اشتراك العزة فلا يلائمه أرهطى أعز عليكم، ثم قال: فإن قيل: شرط التخصيص عند السكاكي أن يكون المقدم بحيث إذا أخر كان فاعلًا معنويًا ولا يتصور ذلك فيما نحن فيه قلنا: إن الصفة بعد النفي تستقل مع فاعلها كلامًا فجاز أن يقال: ما عزيز أن على أن يكون أنت تأكيدًا للمستتر ثم يقدم ويدخل الباء على {عَزِيزٌ} بعد تقديم {أَنتَ} وجعله مبتدأ. وكذلك قوله سبحانه: {وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الذين ءامَنُواْ} [هود: 29] {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} [الأنعام: 107] مما لي حرف النفي وكان الخبر صفة، وقد صرح صاحب الكشاف. وغيره بإفادة التقديم الحصر في ذلك كله، وأما صورة الإثبات نحو أنا عارف فلا يجري فيها ذلك فلا يفيد عنده تخصيصًا، وإن كان مفيدًا إياه عند من لا يشترط ذلك.
وأجاب صاحب الكشف عما قاله صاحب الإيضاح بعد نقل خلاصته: بأن ما فيه الخبر وصفًا كما يقارب ما فيه الخبر فعلًا في إفادة التقوى على ما سلمه المعترض يقاربه في إفادة الحصر لذلك الدليل بعينه، وأن قولهم: {وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لرجمناك} [هود: 91] كفى به دليلًا أن حق الكلام أن يفاد التخصيص لا أصل العز ففهمه من ذلك لا ينافي كونه جوابًا لهذا الكلام بل يؤكده، وقد صرح الزمخشري بإفادة نحو هذا التركيب الاحتمالين في أنها كلمة هو قائلها، وقال العلامة الطيبي: إن قوله تعالى: {لَوْلاَ رَهْطُكَ لرجمناك} [هود: 91] وقوله سبحانه: {وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود: 91] من باب الطرد والعكس عنادًا منهم فلابد من دلالتي المنطوق، والمفهوم في كل من اللفظين انتهى.
ويعلم من جميع ما ذكر ضعف اعتراض صاحب الإيضاح والعجب من العلامة حيث قال: إنه اعتراض قوي؛ وأشار السكاكي بتقدير المضاف إلى دفع الإشكال بأن كلامهم إنما وقع في شعيب عليه السلام وفي رهطه وأنهم هم الأعزة دونه من غير دلالة على أنهم أعز من الله تعالى.
وأجيب أضًا بأن تهاونهم بنبي الله تعالى تهاون به سبحانه فحين عز عليهم رهطه دونه كان رهطه أعز عليهم من الله تعالى أو بأن المعنى أرهطى أعز عليكم من الله تعالى حتى كان امتناعكم عن رجمي بسبب انتسابي إليهم وأنهم رهطى لا بسبب انتسابي إلى الله تعالى وأني رسوله. ثم ما ذكره السيد قدس سره من جعل التنوين في عزيز للتعظيم وحينئذٍ يدل الكلام على ثبوت أصل العزة له عليه السلام فيلائمه أرهطى أعز؟ إلخ صحيح في نفسه إلا أن ذلك بعيد جدًا من حال القوم، فإن الظاهر أنهم إنما قصدوا نفي العزة عنه عليه السلام مطلقًا وإثباتها لرهطه لا نفي العزة العظيمة عنه وإثباتها لهم ليدل الكلام على اشتراكهما في أصل العزة وزيادتها فيهم، وذلك لأن العزة وإن لم تكن عظيمة تمنع من القتل بالحجارة الذي هو من أشر أنواع القتل، ولا أظن إنكار ذلك إلا مكابرة، وكأنه لهذا لم يعتبر مولانا أبو السعود عليه الرحمة جعل التنوين للتعظيم لتتأتى المشاركة فيظهر وجه إنكار الأعزية فاحتاج للكشف عن ذلك مع عدم المشاركة، فقال: وإنما أنكر عليه السلام عليهم أعزية رهطه منه تعالى مع أن ما أثبتوه إنما هو مطلق عزة رهطه لا أعزيتهم منه عز وجل مع الاشتراك في أصل العزة لتثنية التقريع وتكرير التوبيخ حيث أنكر عليهم أولا ترجيح جنبة الرهط على جنبة الله تعالى. وثانيًا نفي العزة بالمرة، والمعنى أرهطي أعز عليكم من الله فإنه مما لا يكاد يصح، والحال أنكم لم تجعلوا له تعالى حظًا من العزة أصلًا {واتخذتموه} بسبب عدم اعتدادكم بمن لا يرد ولا يصدر إلا بأمره {وَرَاءكُمْ ظِهْرِيًّا} شيئًا منبوذًا وراء الظهر منسيًا انتهى.
وأنا أقول: قد ذكر الرضى أن المجرور بمن التفضيلية لا يخلو من مشاركة المفضل في المعنى إما تحقيقًا كما في زيد أحسن من عمرو أو تقديرًا كقول علي كرم الله تعالى وجهه: لأن أصوم يومًا من شعبان أحب إلي من أن أفطر يومًا من رمضان وذلك لأن إفطار يوم الشك الذي يمكن أن يكون من رمضان محبوب عند المخالف فقدره علي كرم الله تعالى وجهه محبوبًا إلى نفسه أيضًا، ثم فضل صوم شعبان عليه فكأنه قال: هب أنه محبوب عندي أيضًا أليس صوم يوم من شعبان أحب منه انتهى، وما في الآية يمكن تخريجه على طرز الأخير فيكون إنكاره عليه السلام عليهم أعزية رهطه منه تعالى على تقدير أن يكون عز وجل عزيزًا عندهم أيضًا، ويعلم من ذلك إنكار ما هم عليه بطريق الأولى، وكأن هذا هو الداعي لاختيار هذا الأسلوب من الإنكار، ووقوعه في الجواب لا يأبى ذلك، وإن قيل بجواز خلو المجرور بمن من مشاركة المفضل وإرادة مجرد المبالغة من أفعل المقرون بها بناءًا على مجيء ذلك بقلة كما قال الجلال السيوطي في همع الهوامع نحو العسل أحلى من الخل.
والصيف أحر من الشتاء، واعتمد هنا على قرينة السباق والسياق فالأمر واضح، واستحسن كون قوله تعالى: {واتخذتموه} إلخ اعتراضًا وفائدته تأكيدتها ونهم بالله تعالى ببيان أنهم قوم عادتهم أن لا يعبأوا بالله تعالى ويجعلوه كالشيء المنبوذ، وجوز بعض كونه عطفًا على ما قبله على معنى أفضلتم رهطى على الله سبحانه وتهاونتم به تعالى ونسيتموه ولم تخشوا جزاءه عز وجل، وقال غير واحد: إنه يحتمل أن يكون الغرض من قوله عليه السلام {أَرَهْطِى} إلخ الرد والتكذيب لقومه فإنهم لما ادعوا أنهم لا يكفون عن رجمه عليه السلام لعزته بل لمراعاة جانب رهطه ردّ عليهم ذلك بأنكم ما قدرتم الله تعالى حق قدره ولم تراعوا جنابه القوي فكيف تراعون رهطى الأذلة، وأيًا مّا كان فضمير {اتخذتموه} عائد إلى الله تعالى وهو الذي ذهب إليه جمهور المفسرين، وروي عن ابن عباس. والحسن وغيرهما، والظهري منسوب إلى الظهر، وأصله المرمي وراء الظهر، والكسر من تغييرات النسب كما قالوا في النسبة إلى أمس: أمسي بالكسر. وإلى الدهر دهري بالضم، ثم توسعوا فيه فاستعملوه للمنسي المتروك، وذكروا أنه حتمل أن يكون في الكلام استعارة تصريحة وأن يكون استعارة تمثيلية.
وزعم بعضهم أن الضمير له تعالى، والظهري العون وما يتقوى به، والجملة في موضع الحال، والمعنى أفضلتم الرهط على الله تعالى ولم تراعوا حقه سبحانه. والحال أنكم تتخذونه سند ظهوركم وعماد آمالكم.
ونقل ابن عطية هذا المعنى عن جماعة، وقيل: الظهري المنسي، والضمير عائد على الشرع الذي جاء به شعيب عليه السلام وإن لم يذكر صريحًا، وروي عن مجاهد أو على أمر الله، ونقل عن الزجاج، وقيل: الظهري عنى المعين، والضمر لله تعالى، وفي الكلام مضاف محذوف أي عصيانه والمعنى على ما قرره أبو حيان واتخذتم عصيانه تعالى عونًا وعدة لدفعي، وقيل: لا حذف والضمير للعصيان وهو الذي يقتضيه كلام المبرد، ولا يخفى ما في هذه الأقوال من الخروج عن الظاهر من غير فائدة، ومما ينظم في سلكها تفسير العزيز بالملك زعمًا أنهم كانوا يسمعون الملك عزيزًا على أن من له أدنى ذوق لا يكاد يسلم صحة ذلك فتفطن، ونصب {وَرَاءكُمْ ظِهْرِيًّا} على أنه مفعول ثان لاتخذتموه والهاء مفعوله الأول، و{وَرَائِكُمْ} ظرف له أو حال من {ظِهْرِيًّا}.
{إِنَّ رَبّى بما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} تهديد عظيم لأولئك الكفرة الفجرة أي أنه سبحانه قد أحاط علمًا بأعمالكم السيئة التي من جملتها رعايتكم جانب الرهط دون رعاية جنابه جل جلاله في فيجازيكم على ذلك وكذا قوله: